-: عين الاخبارية :- من بين اللافت في التحولات العربية الجارية، ما باتت عليه الدولة المركزية، من الضعف ومن فقدان السيطرة. ولعل هذا هو أحد أسوأ تداعيات الانفجار الاجتماعي الذي وقع في بعض الأقطار، وبات حُجة على الثورات، في التناول السطحي لمقاصد القوى التي تحركها أو تمتطيها!
المستبدون الفاسدون يخنقون المجتمع، ومن بين ما يحرصون عليه، حرمان الناس من مزايا الاجتماع السياسي، ومن حق المراس الديموقراطي. فالمستعمرون أنفسهم، كانوا يتيحون لسكان المستعمرات، مراساً على السياسة، تحسباً ليوم جلائهم، وحرصاً على تهيئة شرائح من النخبة، تتحمل مسؤوليات الحكم، دون قطيعة معهم بعدئذٍ. لكن المستبدين، يحرصون على استمرار التصحر السياسي في بلدانهم، ولا يطيقون ظهور شرائح سياسية، تؤدي دورها في موازاة شرائح الأتباع والانتهازيين وأشباه العبيد. فإذا ما انفجر المجتمع، بمفاعيل البطش والخنق السياسي والفساد والفاقة؛ لا تجد ثورات الانفجار، نخبة تصلح فوراً للقيادة، فيمتطي الموجة إما إسلامويون أتيح لهم أن ينتظموا تحت عناوين الدين والعبادة والنشاط الخيري، ويتمتعون بالقدرة على الخطابة، أو أشقياء من أرباب السوابق وقناصي الفرص. من هنا جاءت الطامة الكبرى، ولهذه الطامة تعليلان، واحد بمنطق النتيجة والآخر بمنطق الأسباب التي تتعلق حصراً بالنظام المستبد، وتُعد نتاجاً لسلوكه الشائن!
أما الإنقلابات على أنظمة النخب الاستقلالية القديمة؛ فلم تؤسس لحياة وطنية ديموقراطية تعطي المجتمع حقه كاملاً. بعض أنظمة تلك الإنقلابات قادها وطنيون وقوميون، واجهوا تحديات جسيمة، وخاضوا معارك تصفية بقايا الاستعمار في بلدانهم. هؤلاء اكتفوا بالصيغة التي يسمونها في الأدبيات الماركسية:”الديموقراطية الشعبية” التي يحظى “الزعيم” في ظلالها، بمحبة شعبه وأمته، ويُظهر مناقبية عالية وزهداً وغيرة على مصالح الأمة. لكن هذا النمط، من أنظمة الحكم تداعى من وضعية هيمنة “الزعيم” والرضى عن أخلاقياته ومقاصده، وهيبة الدولة، الى أشكال مقلدة أو مشوهة من الحكم المزاجي والعائلي الفاسد المستبد، الذي لا يطيق أنفاس المجتمع ولا يراعي مصالحه. وكان من أسوأ أعمال أنظمة الحكم تلك، بناء شبكات المصالح الخاصة الموصولة بأجهزة الأمن والقمع، فيما الدولة المركزية، كصيغة، أو كإطار، نشأ أصلاً لكي يكون حَكَماً نزيها بين الناس، يجمع ولا يُفرق، ويعلي من شأن المواطنة ويكرس الحقوق والواجبات، دون تمييز جهوي أو عرقي أو ديني.
المُستبدون، رموا الدولة في سفح السلطة الفعلية، الأمنية والاقتصادية الطفيلية. وبذلك هم الذين دكّوا دعائم قيام الدولة، وجعلوها تقف بلا أساس وفوق رمال متحركة. فهي لا تتوافق مع أهوائهم، من حيث هي كابحة، بالقانون، لنزوات الحاكم، ومكرّسة ـ بالقانون أيضاً ـ لحقوق المواطنين بلا تمييز، وراعية لتكافؤ الفرص وازدهار الوطنية.
هؤلاء المستبدون، يتباكون اليوم على الدولة ويرون في القوى الاجتماعية التي تسعى الى اطاحة استبدادهم، طرفاً متآمراً على الدولة وعلى الوطن، وعلى الوحدة التمامية لأراضيه، وعلى سمائه ومقدراته. وساعدت فوضى الانفجار، على رواج خطابهم هذا، علماً بأن الفوضى هي النتاج الطبيعي للتصحر السياسي الذي أوقعوه في المجتمع، حتى وجد هذا المجتمع نفسه، مضطراً وهو تحت النيران والسكين، لأن يتلقى المساندة من قوى أصولية متطرفة، أو من موتورين أو من مستعمرين قدامى وجدد، كما في المثال الليبي.
قامت الدولة المركزية، في معظم بلدان العالم العربي، بالنخب الاستقلالية الموصولة جزئياً بالمستعمر القديم. وبدلاً من تطوير الحياة السياسية، وإتاحة المراس للأجيال، لتعزيز قوة الدولة، حدث العكس، وانتقل المجتمع من اختناق الى اختناق، حتى باتت أيام المستعمر، بالنسبة للبسطاء من الناس، زمناً جميلاً ـ بالقياس ـ يحنون اليه!
اليوم تضعف الدولة المركزية وسط مشهد الانفجار. والتناول السطحي للظاهرة، بمنطق النتيجة، يتسم بالترحم على الديكتاتوريات الفاسدة، في حين يتسم التناول الموضوعي بمنطق السبب، بإحالة الظاهرة الى سببها الحقيقي، وهو تلك الديكتاتوريات التي لا ينبغي أن تعود أو أن تهنأ إن بقيت.
صحيح إن المجتمع الذي انفجر في ليبيا مثلاً، ثم فوجىء بحسابات الاستعماريْن القديم والجديد، تدفعانه الى مساندة الثورة؛ ما زال يعاني من ضعف الدولة حيال تشظيات المجتمع، وخروج الجهويات والعشائريات والأعراق من قماقمها؛ غير أن الصحيح كذلك، أن عاماً أو عامين من ضعف الدولة ووقائع الفوضى، لا تضاهي في فداحتها نزوات يوم أو يومين، من تجربة حاكم فاسد ومستبد، يتسلى بالقتل. ففي النهاية، وحتى لو استغرق بناء الدولة عشر سنوات، لا بد من التوافق على صيغة الدولة المُهابة والعادلة.
في سوريا، استدعيت مقولة الدولة كمصطلح، لكي تصبح ذريعة الحاكمين وهم يتمسك بالحكم، فيما سلطتهم نفسها، هي التي حعلت الدولة، طوال أربعين عاماً أو أكثر، معلقة في الهواء. والمستعمرون يطربون الآن، لأصوات قصف الناس وذبحهم، ويتظاهرون بالألم كذباً. أما الدفاع عن الدولة التي أعلنت السلطة عن وجودها، فإنه بدأ واستمر دموياً بمنحى طائفي، بينما الدولة ليست مقاولة طائفية، أو كأن السلطة التي أعلنت عن هوية قومية عربية للدولة؛ لا تمارس في دفاعها عن الحكم، كل ما من شأنه تضييع الدولة الجامعة لكل الأطياف، والتمكين لقومية أخرى. أو كأن العراق، الذي استحوذ فيه هذا المنحى، على مركز الحكم، لا يعاني من ضعف مطرد، لسلطة الدولة المركزية. ففي هذا المثال، يُصار الى تضييع صيغة الدولة، على نحو أضيعُ بكثير، مما فعلته السلطة، عندما رمت الدولة في سفحها!
www.adlisadek.net
adlishaban@hotmail.com