متى نبدأ بمحاسبة اسرائيل بقلم طلال عوكل
-: عين الاخبارية :- لا بدّ للمرء أن يلاحظ الفارق في طبيعة ومحتوى الحركة السياسية، والخطاب السياسي، بعد الإنجاز الذي تحقق في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عما كان قبله، لا على الصعيد الفلسطيني، وحسب وإنما على الصعيدين العربي والدولي، وأيضاً على الصعيد الإسرائيلي. صحيح أن الدولة الفلسطينية المستقلة بكل مكوناتها الواقعية لم تتحقق بعد، وان الإنجاز السياسي الذي تحقق، لا يزال نظرياً، لكن أبعاده السياسية والقانونية والاستراتيجية مهمة إلى حد كبير، حيث توفرت لمنظمة التحرير الفلسطينية فرص حقيقية، لتوسيع أدوات وأطر الاشتباك مع السياسات الإسرائيلية، التي يمكن أن تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته على نحو مختلف عما سبق.
الآن يمكن للفلسطينيين أفراداً، ومؤسسات، وسلطات، أن يتقدموا بمئات الشكاوى والملفات إلى محاكم جرائم الحرب الدولية، وهي ملفات طافحة بالانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها وترتكبها دولة الاحتلال.
لم تكن عبثية مطالبة بعض الدول الأوروبية، بأن تتعهد منظمة التحرير الفلسطينية بضمانات خطية، على أن لا تذهب بملفاتها ضد الاحتلال إلى محاكمة جرائم الحرب، كشرط لموافقة تلك الدول على الطلب الفلسطيني في الأمم المتحدة، كما لم يكن عبثياً رفض القيادة الفلسطينية الإذعان لتلك الشروط.
الدول الأوروبية المعنية، هي التي ساهمت في خلق ونجاح المشروع الصهيوني ولم يكن ذلك، إرضاءً لليهود، أو فقط للتخلص من الأزمة اليهودية التي أثقلت كاهل المجتمعات الأوروبية، وإنما كان ذلك في الأساس، من أجل خدمة مصالح الدول الاستعمارية ذاتها، ولمنع قيام مشروع قومي عربي نهضوي في هذا الجزء الاستراتيجي من الكرة الأرضية.
الدوافع التي وقفت وراء إنجاح المخطط الصهيوني بإقامة دولة إسرائيل على الجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية، هذه الدوافع لا تزال قائمة، ولا تزال قائمة استعدادات الدول الاستعمارية الغربية، لحماية إسرائيل، والمحافظة على تفوقها، ولمواصلة وظيفتها ودورها، وربما من أجل ذلك، وتوخياً لمصالحها وإدراكاً لمصالح إسرائيل ذاتها، تسعى تلك الدول لإقامة دولة فلسطينية باعتبار أن ذلك، هو السبيل الوحيد لبقاء إسرائيل.
لهذا السبب، فإن الدول الاستعمارية، تتعاطف مع الحقوق الفلسطينية، ولكن ليس إلى الحد، الذي يؤدي بها إلى تبني تلك الحقوق، والتخلي عن تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل لصالح الفلسطينيين والعرب، أو السماح بإضعاف إسرائيل ومعاقبتها على ما تقترف من جرائم.
في حالة واحدة يمكن للغرب الاستعماري أن يتبع سياسة متوازنة في علاقاته مع العرب وإسرائيل، وهي أن يبدل العرب طبيعة تعاملهم مع حقوقهم ومصالحهم ومخاطبة الآخرين بلغة المصالح ومن موقع الندية. فحينها فقط يمكن للغرب أن يجري تعديلاً مهماً على سياساته، لأن السياسات الإسرائيلية تشكل عبئاً ثقيلاً على مصالح الغرب.
إسرائيل المحكومة لعقلية التطرف السياسي المفتوح على آفاق لا ترى للفلسطينيين حقوقاً على أرضهم التاريخية، اندفعت أكثر نحو المزيد من التطرف كرد فعل على الإنجاز السياسي الفلسطيني، الأمر الذي أدى إلى إحراج واستفزاز حتى حلفاء إسرائيل بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وبالطبع الفلسطينيين، والعرب. وقد لاحظنا مؤخراً تصعيداً في مواقف الاتحاد الأوروبي على موجات الاستيطان الأخيرة، التي أعلنت عنها الحكومة الإسرائيلية، كما لاحظنا الخطاب غير المسبوق لأمين عام الأمم المتحدة بان كي مون الذي اعتبر أن الاستيطان يشكل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي.
لم يكن لبان كي مون أن يرقى بتصريحاته إلى هذا المستوى، لولا أنه يعبر عن مواقف الدول الكبرى بما في ذلك الولايات المتحدة، وربما بالنيابة عنها. إن إسرائيل تعرف ما معنى أن يدلي كي مون بتصريح من هذا المستوى، لكنها في الوقت ذاته غير قادرة وغير مستعدة، لمغادرة منطق الدولة فوق القانون، والدولة الخارجة عن القانون، هذا المنطق الذي يحكم كل سياسة الدولة الإسرائيلية منذ قيامها.
الفلسطينيون، أيضاً، اختلف خطابهم، وبات يتمتع بالكثير من الثقة والقوة، يلخصه التهديد الذي أطلقه الرئيس محمود عباس، الذي قال إن إسرائيل ستحاسب على سياساتها الاستيطانية، الأمر الذي ترك لدى الإسرائيليين مخاوف من تقرير غولدستون (2) حول الاستيطان.
وعلى الصعيد الفلسطيني، أيضاً، لا يمكن تفسير هذا الانفتاح على العلاقات بين حركتي فتح وحماس، على النحو الذي يتيح لكل طرف معاودة النشاط السياسي والجماهيري في الضفة وغزة دون أن نلاحظ روح التحدي الذي تقف وراءه، والتي لم تعد تخشى ردود الأفعال الإسرائيلية، التي يستفزها أي مسعى نحو المصالحة.
وربما علينا أن نلاحظ، أيضا، وبوضوح، أن ثمة إدراكا أعمق من قبل قيادة حماس لما تعنيه منظمة التحرير الفلسطينية والشرعية، والتي مهما قيل من ملاحظات حولها وبشأنها، إلاّ أنها تشكل الثابت الراسخ في الحياة السياسية الفلسطينية التي لا يمكن تجاوزها أو خلق بدائل عنها أو حتى النجاح في العمل من خارجها. وعلى الرغم من المخاوف التي يبديها بعض النخب السياسية الفلسطينية إزاء المصالحة، إلاّ أن المناخ العام الفلسطيني يقدم العديد من المؤشرات التي تجعلنا نعتقد أن التوجه للمصالحة هذه المرة، هو توجه صادق وحقيقي، حتى لو تأخرت قليلاً اللقاءات التنفيذية.
والحال أن اجتماع وزراء الخارجية العرب المزمع انعقاده في رام الله نهاية الشهر الجاري، يشكل هو الآخر، نقلة مهمة في الفكر السياسي والسلوك السياسي، العربي، الذي نتمنى أن لا ترتد نتائجه نحو تقديم المزيد من التنازلات والتراجع عن المبادرة العربية للسلام. إن عقد الاجتماع في رام الله المحتلة، هو دعم كبير للسياسة الفلسطينية، وتحدٍ للسياسة الإسرائيلية، وهو، أيضاً، دعم كبير وتأكيد عربي رسمي جماعي على أهمية التمثيل الفلسطيني والشرعية الفلسطينية. العرب قرروا الوفاء بما التزموا به، إزاء توفير شبكة أمان مالي للسلطة التي تعاني بسبب القرار الإسرائيلي بمنع تحويل المستحقات الفلسطينية، لكن المأمول من العرب، هو أكثر من ذلك بكثير، فالمسألة ليست فقط مسألة تمكين السلطة من دفع الرواتب، والوفاء بالحد الأدنى من التزاماتها، ولكن المسألة تتعلق بضرورة توفير الإمكانيات المادية لمجابهة الاستيطان وحماية القدس وإعادة إعمار قطاع غزة.