مدارات أكابر التاريخ يستقبلون ملك الحبشة بقلم عدلى صادق
ليس لك إلا الفانتازيا، لكي ترتقي بمخيلتك الى سويّة الحدث، فتدرك أهميته الضاربة عميقاً في راهن أوقاتنا. فمن غير النجاشي؛ بمقدوره أن يجعل للحبشة، كل ذاك الوزن في التاريخ وفي الجغرافيا؟! ومَن غير هؤلاء الأفذاذ، من أهل الطنين، الذين سينعقد لهم كل هذا الصولجان، فيما هم بلا تاريخ ولا مناقب ولا مآثر، ولا إنجازات سوى كل ذلك الحطام الهائل، من دمار العمران والنفوس والآمال والقضية!
المستقبلون «الربانيون» في غزة، يجاهدون أنفسهم لكي يتنسموا في حضرة النجاشي، أخلاق النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه، في تعاطيه مع ملك الحبشة. ولا يكترث هؤلاء، بالتخرّصات ولا بتعيين الفوارق في السياقات والخلائق، بينهم وبين الأخيار في صدر الإسلام، إذ لن تكون دعوة «الربانيين» للنجاشي القطري، معادلاً موضوعياً لدعوة النبي للنجاشي الحبشي، فيتبدى خطابهم على هذا النحو: ندعوك الى اتباع منهجنا والأخذ بناصية المقاومة، بل ندعوك لأن تتبعنا فتؤمن بما نسعى اليه من النهر الى البحر، وأن توالينا على هذا الطريق، وإن جاءك نفرٌ من مجاهدينا، فاحسن وفادتهم، وأقرّهم، واستبدل بهم عسكر الأمريكيين المقيمين، وإننا ندعوك وصحبك وجنودك، الى الله والى الزهد والمقاومة بعد الممانعة. أما قواعد الأمريكيين في ديارك، فبعد أن انطلقت منها طير أبابيل، ترمي العراق وتدمره وتقتل أهله، وتهدد بتدمير آخرين؛ فاقبل نصيحتنا واخلعها، والسلام على من اتبع الهدى!
في حضرة النجاشي القطري، تصل تجليات السنين الهنيّة، في غزة، الى ذروتها السمينة، ويكبر «النونو» و»المشير» و«الحية» وآخرون غيرهم. يصطادون الكاميرات، بياقاتهم وربطات عنقهم الحريرية، وذقون خجلى مخففة، لا يعترف بجدارتها ذوو اللحى المكثفة. ربما، أثناء الاستقبال، تطفح قاماتهم وأدوارهم، من قمقم القطاع الصغير المختطف، الى ساحات العالمين، فيطمسون مناقب وحكايات رموز النضالات المديدة في التاريخ، على طريق العدالة والحرية، ويعترشون الزمن، بصنائعهم الوضّاءة، وزهدهم، وصبرهم على شظف العيش، وتحملهم لقليل خِرفانهم وزوجاتهم وعقاراتهم وسياراتهم الفارهة، وكل ما بزّوا به سواهم بواسع حكمتهم، وأريحيتهم، وتسامحهم، وبتعففهم عن أموال الناس وأرزاقها ودمائها، وعن جرح مشاعرها وإيذاء قضيتها!
هم أكابر الزمن الأغبر، نجاشيون و«ربانيون» مع كل الاعتذار لملك الحبشة ولأبي ذر الغفاري وعبد الله ابن مسعود وسواهما. الأول كان مقصد المظلومين بارّاً بهم. فعندما اقتضى الأمر أن يهاجر رهط المسلمين الأوائل، في السنة الخامسة للهجرة، حفظاً للذات وللرسالة، نصحهم محمد عليه السلام، بمغادرة مكة الى الحبشة لأن «فيها ملكٌ لا يُظلم عنده أحد، وعادل في حكمه كريم في خُلُقه». أما «ربانيو» غزة، فهم كذابون قناصو أموال، ولا بد أنهم قدروا منذ الآن، حجم «الهبرة» التي سيهبرونها هم وخاصتّهم، من أية مشروعات لإعادة الإعمار!
ملك الحبشة المسيحي، قاوم مساومات الشيطان، وهمساته له، بأن يغتنمها فرصة فيفتك بنواة القوة المسلمة. أما نجاشيو زمننا، فإنهم يتدبرون مع الشيطان، كيف لا نصبح أقوياء وموحدين، وكيف لا نتمسك بأهدافنا في السياق التاريخي العام، وكيف نركز على أهداف صغرى في إطارنا وفي سجالاتنا وفي تهاجينا اليومي!
وبخلاف الدعابة، في وسعنا القول، إن صولة النجاشي القطري، تبدّل بعض المواقف والبيادق، على رقعة الشطرنج. تصطدم ممانعتان في غزة، واحدة حبشية وأخرى أسدية ـ إيرانية ـ حزبية «إلهية» مُدمجة، وتفترقان. إن بالغ «الربانيون» في الحفاوة بالأولى، خسروا نهائياً حفاوة الثانية، على أن يُترك الأمر لرب العالمين العادل، لكي يحسم المقادير. ذلك علماً بأن لكل من الأولى والثانية مواويلها ومقاصدها، التي ليست فلسطين من بينها!
بقي القول، إن العلامة الفارقة، لتغلب الممانعة الحبشية الأصيلة، على الممانعة المدمجة (الإيرانية ـ الأسدية ـ الحزب «إلهية») ستظهر من خلال تهجئة اسم السيدة حرم النجاشي. فإن التزم الإعلام الحمساوي المكتوب، بـ «موزا» حسب التوجيه الرسمي الأخير لإعلام الحبشة، تكون الأمور قد بلغت ذروتها وأفلح «الربانيون». أما إن ظلت التهجئة على حالها السابق «موزة» فستكون الأمور عسيرة الهضم، وفي مستوى ثمرة واحدة، لا في مستوى نهر Moza الهولندي السخي الفاتن مثلاً. ومن يدقق سيعرف النتيجة. فمن جهة محسوبكم، هي «موزا» حسب ما تريد صاحبتها. فنحن ننشد الود مع كل الممانعات السخية والشحيحة، ولله في خلقه شؤون!