منذ فجر الصراع الاستيطاني في فلسطين في نهايات القرن التاسع عشر، كان الفلسطينيون الجانب الأضعف فيه، وتعرّض وطنهم الذي كان مهداً للحضارات الأولى إلى حملة تشويه بشعة دمرت مدنه وقراه، وأقامت على أنقاضها مستعمرات لمستوطنين من شعوب متفرقة. وخلال هذه “الساجا” الطويلة من العذاب والتشريد كان يتم استصدار قرارات أممية وفرمانات من تيجان ووزراء، كلها تهدف إلى شرعنة محاولة المسح الممنهج للوجود الفلسطيني على أرض الآباء والأجداد. كانت القوى العظمى والمؤسسات الدولية تتكاتف من أجل خلق هذا الواقع الجديد الذي يندثر فيه الشعب الفلسطيني ويتشتت جمعه بين البلدان المجاورة ولا يعود له وجود ولا أثر. وفي أحسن الحالات لن تكون القصة إلا مجرد قصة إنسانية بحاجة لمعالجة إنسانية اقتصادية إغاثية.
لم يملك الشعب الفلسطيني قوة أبعد من قوة الحق. حقه الأبدي وغير القابل للتصرف ورغم تعرضه لكل آلات البطش والتنكيل والتشريد فإنه ظل قوياً متماسكاً قادراً على مواجهة المحن وتجاوز الأوقات العصيبة. إلا أن السياسة تعرف لغات أخرى غير لغة الحق، تعرف لغة القوة المادية التي عانى الشعب الفلسطيني دائماً من اختلال ميزانها لصالح إسرائيل التي ضخت عليها الدول الكبرى كل ما جادت به مصانعها من سلاح، ومصارفها من مال، حتى تمكنت من الهيمنة الكاملة على الأرض وبناء اقتصاد وقوة عسكرية متقدمين هزمت بهما جيرانها العرب.
رغم ذلك فقد برع الشعب الفلسطيني في تطوير وسائل قوته وتحسين شروط المعادلة، فالشعب الأعزل المشرد قام من رماده في بداية الستينيات وحمل السلاح وخاض حروباً باسلة فرضته مرة أخرى على المشهد ولم يعد مجرد شعب لاجئ وفلاحين مقتلعين من قراهم بل صار شعباً ثائراً وله ممثلوه ومتحدثون باسمه. كما وجد مكاناً له خلف المنابر الأممية ووجه رسائل للعالم. وتقلبت الوسائل وتطورت الأدوات حسب المراحل المختلفة ودخلت أشكالاً نضالية جديدة في كل مرحلة جديدة. والحكمة أن كل مرحلة تتطلب طريقة معالجة مختلفة قد لا تلغي المعالجات السابقة ولكنها تضيف إليها تراكماً وتعمل على تطويرها وإن كان يتم تغليب بعض هذه الأدوات على غيرها وفق مقتضيات المرحلة.
فهو لم يتورع في استخدام السلاح حين كانت موجة المد الثوري تجتاح العالم وحركات التحرر تضرب قلاع الاستعمار في المستعمرات وجيوش الدول المستعمرة تسحب جيوشها إلى حواضرها في الغرب. وتنوعت الوسائل المتبعة وشملت عمليات الاختطاف والإنزال البحري والاشتباك الحدودي. وفي مرحلة أخرى نزلت الجماهير إلى الشارع في اشتباك يومي مع جنود الاحتلال، واستطاع الحجر الفلسطيني في الانتفاضة الأولى أن يهزم الدبابة الإسرائيلية، وتناقلت وسائل الإعلام الدولية في ذلك الوقت مطاردات الجيش المدجج بالسلاح لأطفال الحجارة في أزقة المخيمات والمدن والقرى، ما قال عنه الراحل إدوارد سعيد بقوة الضعيف تجسد في مراحل مختلفة حين صار ضعف الفلسطيني وافتقاره إلى أي نوع من أنواع القوة المادية هو مصدر قوة له. وتمثل هذا بعد ذلك في الصراع الدبلوماسي والسياسي والذي كان آخر صوره الصراع في أروقة المؤسسات الدولية حول تمثيل فلسطين وبعد ذلك حول عضويتها كباقي شعوب الأرض، ولشدة وخطورة ذلك فقد اعتبرت إسرائيل هذا النوع من الصراع محاولة لنزع شرعيتها في العالم وأعلنت عن حرب دبلوماسية تخوضها لوقف هذه الحملة. ما أقصده هنا أن ثمة إدراكاً مختلفاً لمواطن القوة وهو إدراك يجب أن يتأسس قبل وبعد كل شيء على فهم ضرورات الصراع وينتج عنه سبل خوضه.
إن الحاجة الملحة التي ترافق البحث عن المخرج المناسب للقفز خارج دائرة الشوك التي تعيشها القضية الوطنية تكمن في استنباط مكامن القوة الحقيقية التي يملكها الشعب الفلسطيني ويعرف كيف يتعاطى مع هذه المكامن ويعظم منها. في المقابل فإن استكشاف مكامن قوة الخصم ومواطن ضعفه تساعد في تقويض قوته وخلخلتها وإبراز ضعفه وجعل تأثير هذا الضعف عليه أكثر وقعاً. تقول الحكاية إن دليلة الفلسطينية زعمت حب شمشون المعتدي الجبار كي تتعرف إلى مواطن قوته ولما عرفت أن ذلك يكمن في شعره الطويل، قصت له شعره ذات ليلة، فقيده الفلسطينيون في معبدهم حتى هدم المعبد على من فيه. طبعاً ينحاز الفلسطينيون في هذه الرواية إلى دليلة بحكم الموقع من الحكاية وبحكم المنطق ومقاربة القوة والضعف. فنحن بحاجة لمعرفة مواطن ضعف عدونا وهو إدراك لابد أن يصاحبه إدراك لمواطن القوة الخاصة بنا.
المقاربة المباشرة للواقع تقول إن الفلسطينيين مختلفون حول فهمهم لقوتهم ولضعفهم ولضعف عدوهم، وهو اختلاف يعكس نفسه مباشرة ليس فقط في البرامج المنفذة وتلك التي توضع لتقدم حلولاً سحرية للأزمة الوطنية بل أيضاً في أدوات النضال المتبعة، وأبعد من ذلك في تحديد معالم العلاقات الوطنية الوطنية وما يصاحبها من تخوين وتكفير وغير ذلك. إذاً ثمة حاجة واضحة لتحديد مواطن القوة والضعف ومن ثم تحديد سبل ترجمة هذه القوة إلى قوة مؤثرة بمعنى انتقالها من قوة كامنة إلى قوة متحركة بمفهوم الفيزياء والعمل على الكشف عن نقاط ضعف الخصم واستغلالها.
إن البلاغة وحدها لا تكفي كما أن خطب المساجد والندوات لا تحل أزمات الشعوب بل إن ما يحلها هو الوقوف الحقيقي أمام المسؤوليات، وحتى لا نجد المعبد وقد هدمه الخصم علينا، ولكن هذه المرة ليس كشمشون علينا وعليه، بل علينا ببلدوزر من الخارج. وقتها سيكون من المتأخر التفكير في الخروج الذي سيكون متعذراً. المحزن أن في كل المقاربات التي تمت للسياق الحالي وللأزمة الحالية فإن أحداً لم يقدم تصوراً عميقاً وبديلاً معقولاً، فجل الخطابات تدور حول التشخيص وليس حول الحلول وفي أجمل حالاتها فإن هذه الحلول جميلة فقط مثل اللغة البلاغية التي صيغت بها. أما الأسئلة الأخرى حول التنفيذ فإنها في علم الغيب.