رحم الله الشاذلي بن جديد، الضابط الجزائري المناضل، الذي أصعده الى سدة رئاسة الجمهورية في بلاده “حل وسط” توصل اليه الأقوياء، بعد النقاش والتجاذب بينهم على امتداد نحو سبعين يوماً. فلم يكن الرجل في وارد التفكير بالرئاسة، عندما توفي الرئيس هواري بومدين، في الأسبوع الأخير من العام 1978. لكن بن جديد، أصبح الخيار المقبول الذي لا مناص منه، لفريقين، أولهما قوي في المؤسسة المدنية للدولة وفي علاقاته السياسية الخارجية، ويريد عبد العزيز بوتفليقه، والثاني قوي في مؤسسة الجيش ويُصر على محمد صالح يحياوي. كان المخاض أعقد من عناوينه بكثير، لأن الدستور الجزائري، يقلص عدد الذين يصلحون للترشح لرئاسة الجمهورية، بسبب اشتراطه على أن يكون أي مرشح لهذا المنصب، قد التحق فعلاً بجبهة التحرير الوطني عند انطلاقتها في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954، إذا كان عمره في ذلك الوقت، جاوز الستة عشر عاماً. وبعد وفاة الزعيم هواري بومدين، نشأت ظاهرة مجموعة الأقوياء التي يمكنها تسمية مرشح رئيس الجمهورية وحسم الأمر، دون أن يكون في مقدور معظم رجالات هذه المجموعة أن يترشح، بسبب عدم التحاقهم بالثورة في السنة الأولى من انطلاقتها!
ظل بن جديد، منذ تسلمه الرئاسة في شباط (فبراير) 1979 يوازن بين خيارات الأقوياء الذين عززوا مواقعهم في الصفوف الخلفية. فهو رجل متواضع من حيث حجم القوة الوازنة، ومن حيث التأهل لإدارة حياة مجتمع بعد إدارة يوميات روتينية لناحية الغرب الجزائري العسكرية. ولم يكن ذلك ذنبه. وقد جاءت الاجتهادات الاقتصادية تجريبية، ركيكة ومرتبكة تحمل الأشياء ونقائضها، إذ كان يتردى وضع الإدارة ويتفشي الفساد، الأمر الذي أوصل البلاد الى حال الاضطراب. وفي مواجهة الاضطراب، لا يكون الحل إلا بمنهج حكم جديد، وبدستور جديد، وبفتح الباب للتعددية السياسية. وكانت بساطة الرجل وفطرته الطيبة، هي التي لاءمت دون سواها، وضعية الاحتجاج الشعبي. فلم يكن غيره سيسمح بالتعددية وبالانحناء أمام الشعب، وببدء الخطى الى الديموقراطية. ولم يكن غير الشاذلي بن جديد، تأنف روحه غلاظة الدولة. فقد أذهله العنف الذي مورس على المحتجين في انحاء عدة من الجزائر وبخاصة في الشرق والغرب (عنابة ووهران) وأرعبه عدد الضحايا، وهو الثائر على الجيش الفرنسي بسبب قتله للجزائريين، بعد أن كان يعمل فيه ضابط صف. ومع الظهور العلني للإسلاميين، إثر السماح بتشكيل الأحزاب وفق دستور العام 1988 كان على الشاذلي بن جديد، أن يواجه ردود أفعال الشعب على رزايا النظام خلال عشرية الحكم الضعيف في الداخل. ومورست السفاهة ضده، من قبل إسلامويين من الطراز نفسه الذي نراه في كل بلد، وحيثما يظن الغرائزي أنه مندوب الرب، والمؤهل للحكم على دواخل البشر وظواهرهم وتجاربهم. فقد كُتبت بالخط الكبير على الجدران، أقذع الأوصاف لذوات الأربع، في حق الرجل، الذي أتاح لهم أحزابهم ونشاطهم وسقط بسببهم.
الداعي لهذه السطور، هو أن الرجل الطيب والرئيس الجزائري الأسبق، الذي أسلم الروح أمس، كان هو الذي حافظ على وديعة بومدين ووصاياه حيال قضايا التحرر وبخاصة القضية الفلسطينية، رغم وجود أقوياء من العسكر يريدون التنكر لإرث الثورة الجزائرية، ومجافاة قضايا التحرر والتوجه الى الأوساط النقيضة في العالم. فتلك كانت بالنسبة للشاذلي، وديعة أجيال متتالية من رموز الحركة الوطنية الجزائرية وتعكس روح مجتمع مسكون بحب العدالة والتواصل مع الأمة العربية. ففي عهد الشاذلي بن جديد، ظلت الجزائر مقصد حركة التحرر الوطني الفلسطينية بكل أطيافها، ومربط خيلها الآمن. وفي فترة الشاذلي بن جديد، كانت تُعقد لنا المؤتمرات الوطنية التاريخية، في احتفاليات جزائرية بذلاً واستضافة وحماية. وفي ظروف الجزائر الصعبة، أثناء فترة حكم الشاذلي بن جديد، انعقد المجلس الوطني الفلسطيني الذي تم فيه إعلان الدولة (15 نوفمبر 1988). وكان اللافت دائماً والمقدّر، أن الشاذلي بن جديد يحضر الافتتاح ويحضر الختام، ولا يتدخل هو وأركان حكمه. فالجزائريون هم الذين كانوا وحدهم، يتركون الخبز للخبازين الفلسطينيين. كان لافتاً كذلك في مؤتمرات “قصر الصنوبر” أن يحشد الرئيس بن جديد سلاح البحرية لحراسة شاطئ مكان الانعقاء مع تأهب القوات المسلحة. وكان من بين أسباب الدعم الاستخباري الخارجي للعنف في الجزائر، هو موقفها الداعم بدون تحفظ للقضية الفلسطينية!
لا تعداد لمآثر بن جديد، في ميدان العطاء لفلسطين ولقضايا التحرر. فتلك مآثر يعرفها الثوريون من أمثاله بالسليقة، وهي تختلف عن فنون الحكم وتضاريسه ومقالبه، وسط مراكز القوى.
ليس لنا في فلسطين، إلا أن نذكر الرجل بكل الخير والعرفان والمحبة، وأن نترحم على روحه الطاهرة، شأننا في ذلك شأن كل الجزائريين الذين قدروا له ما أعطى، وعذروه فيما لم يستطع، له رحمة الله الواسعة، ولذويه ومحبيه الصبر والسلوان!