من الواضح أن التظاهرات الأخيرة في المناطق الفلسطينية قد أشعلت الضوء الأحمر في إسرائيل، التي كانت على ما يبدو مطمئنة تماماً للهدوء والاستقرار الأمني على الجبهة الفلسطينية سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية على وجه الخصوص. وكل الأحاديث عن احتمال اندلاع انتفاضة أو “ربيع فلسطيني” لم تكن تؤخذ على محمل الجد، وإن كانت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تراقب عن كثب ما يدور لدينا.
وبدأ القلق يتسرب إلى المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل.
فجأة برزت إمكانية أن تحدث تطورات قد تطيح بالوضع القائم وبحالة الهدوء التي بدت وكأنها أزلية. وينتهي الشعور بالرضا والطمأنينة.
فلأول مرة منذ العام 2007 يدرك الإسرائيليون أنه يمكن أن تنهار السلطة الفلسطينية ويمكن أن يذهب الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض، ويمكن أن تختفي اتفاقية “أوسلو” ويحدث هناك فراغ سياسي وفوضى تذهب دون أدنى شك في نهاية المطاف نحو مواجهة مع الاحتلال.
لكن الاستخلاص الإسرائيلي الجوهري من إمكانية حدوث الفوضى هو البحث عن مخارج لا تتعدى محاولات التخدير والتسكين وتأجيل القدر إلى أبعد وقت ممكن. والحلول الإسرائيلية المقترحة تتركز في محاولة التخفيف من الضائقة الاقتصادية في المناطق الفلسطينية عبر إدخال المزيد من العمال للعمل في إسرائيل، وبعض التسهيلات الأخرى، وإذا صحت الأنباء ربما يكون هناك بحث جدي في تطوير وتشغيل حقل الغاز الطبيعي مقابل شاطئ غزة. وهذه الإجراءات تستهدف منع انهيار السلطة وتمدد التظاهرات والاحتجاجات إلى الجانب الإسرائيلي.
صحيح أن من واجب إسرائيل بصفتها قوة الاحتلال والمسؤولة عن تردي الأوضاع الفلسطينية على مختلف المستويات المساهمة في تقديم حلول للمشاكل القائمة، وهذا يجب أن يكون مطلبا فلسطينيا دائما أمام المجتمع الدولي بتحمل إسرائيل مسؤولياتها الكاملة طالما بقي الاحتلال وعدم إيهام العالم بأننا كيان مستقل وقادر على التصدي لهموم واحتياجات ومطالب قطاعات وفئات الشعب المختلفة.
ولكن الأهم هو التركيز على البعد السياسي للأزمة وهذا ما تحاول إسرائيل أن تتجنبه باستماتة. ونحن هنا ارتكبنا أخطاء قاتلة في هذا الشأن عندما أوحينا لأنفسنا وللجميع أن ما نواجهه من مشاكل وصعوبات يتعلق فقط بقدرتنا الذاتية بصفتنا قد تحررنا أو على وشك ذلك.
والإسرائيليون يناقشون داخلياً احتمال اندلاع تظاهرات تعم مختلف الاراضي الفلسطينية وهذا هو السيناريو الأسوأ والتصعيد الذي يهيئ الجيش الإسرائيلي نفسه له حسب ما يقول قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال الذي يعتبر أن الهدفين البارزين لجيشه في المرحلة المقبلة هما: الحفاظ على الاستقرار القائم ومنع أي تصعيد آخر. والتعامل مع احتمال البدء بـ”ربيع عربي فلسطيني”.
وهذه المعالجات الإسرائيلية لا يمكنها بأي حال أن تلغي أو أن تمنع الاحتقان القائم الذي مرده إلى وصول العملية السياسية والمشروع الوطني الفلسطيني إلى طريق مسدودة. أي أنها تعالج الظواهر الثانوية المترتبة على الازمة السياسية والتي تنعكس في مشاكل اقتصادية تزداد حيناً وتخفت حدتها حيناً آخر.
بل إن التفكير السياسي لحل ابعد مدى ينحصر في احد طريقين: الأول هو المضي قدماً في السياسة الاستيطانية وتوسيع وتسمين المستوطنات القائمة والمستحدثة على أمل الوصول إلى واقع تنعدم فيه إمكانية تحقيق تسوية سياسية على أساس حل الدولتين على حدود العام 1967، وإجبار الشعب الفلسطيني على صرف نظره عن التفكير في هذا الخيار والقبول بما يشبه الحكم الذاتي الموسع أو الدولة أو الدويلات المسخ بالاعتماد على حالة الانقسام القائمة ودولة “حماس” التي يجري تكريسها.
والثاني هو القيام بخطوة أحادية الجانب تبدو مقبولة دولياً على غرار مشروع شارون الذي بدأه في قطاع غزة والذي يحاول وزير الأمن إيهود باراك إقناع الإسرائيليين به في هذه الأيام كحل أخير إذا ما استمر الجمود السياسي ـ على حد تعبيره ـ. ومشروع باراك العظيم هذا يقوم على الانسحاب من مناطق واسعة في الضفة وإخلاء بعض المستوطنات الهامشية والمتفرقة هنا وهناك والابقاء على المستوطنات الكبيرة والمهمة والمواقع العسكرية وأيضاً استمرار احتلال غور الأردن وإبقاء السيطرة على الحدود مع الأردن. وهذه الخطة في الواقع شبيهة الى حد ما ببقايا اتفاق “أوسلو” الذي ينص على تنفيذ ثلاثة انسحابات أو نبضات تبقي الاحتلال متواجداً فقط في المستوطنات والمواقع الأمنية، أي إخلاء الغالبية الساحقة من مناطق الضفة الغربية قبل البد بالمفاوضات حول الوضع الدائم. وهذا ما نسيناه في خضم التجاهل الإسرائيلي والدولي لنصوص الاتفاقية، وفي ظل التعامل الفلسطيني مع الأمر الواقع.
هذا هو أقصى ما يمكن أن يذهب إليه الإسرائيليون في تفكيرهم لمواجهة الاحتمالات المستقبلية التي تمثل انعكاساً لحالة الإحباط واليأس من إمكانية إحياء العملية السياسية وفتح أفق أمام التسوية وحل الصراع. وحتى هذه الحلول التي يطرحها المتفائلون هي في نهاية المطاف مرفوضة تماماً من قبل المستوطنين ومؤيديهم الذين يتحكمون بالسياسة الإسرائيلية فأفكار باراك هذه لقيت رفضاً فورياً من قبل أقطاب حزب “الليكود” وحزب “إسرائيل بيتنا”، الحزبين الأكبر في الحكومة الحالية التي يترأسها بنيامين نتنياهو نصير المستوطنين وحامي التطرف بحدوده القصوى.
فإذا كان هذا ما يفكر به الإسرائيليون المتنفذون الذين يستغلون الظروف المحلية والإقليمية والدولية الراهنة التي لا تسير في صالح القضية الفلسطينية على الأقل في هذه المرحلة، فما هو الرد الفلسطيني على هذه الردود والمخاطر، هل سنبقى في مربع التسلي بأفكار لا طائل جديا منها، والتقدم والتراجع والمراوحة السياسية في المكان، وانتظار أن يهب الشعب مرة أخرى ويستعيد دوره في العملية الكفاحية مع ما قد ينطوي على ذلك من مخاطر فقدان السيطرة إذا انحرفت الأمور نحو الفوضى؟ أم اننا سنستعيد رشدنا وعزيمتنا ونذهب نحو إستراتيجية وطنية ورؤية شاملة للخلاص من هذا الوضع الكارثي؟.