تقدم الولايات المتحدة نفسها في صورة الوسيط “المحايد” في نزاع بين طرفين متعاديين (الصراع العربي – الإسرائيلي)، والغرب من الجبن وعدم الصدق بحيث نراه متورطاً في هذه اللعبة رغم أن الجميع يعلم بأنها محض هراء. و”تزعم اسرائيل والولايات المتحدة بأنهما يريدان إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين دون شروط للتفاوض، وتعمل الدعاية الغربية على أن يبدو الأمر وكأن الفلسطينيين هم الذين يصرون على شروط للتفاوض، رغم أن هذا هو عكس الحقيقة تماماً فاسرائيل والولايات المتحدة هما اللتان تصران على شروط من بينها أن تتولى الولايات المتحدة قيادة المفاوضات، وهو أشبه بالقول إن المفاوضات لحل النزاعات بين السنة والشيعة في العراق يجب أن تقودها إيران! من يريد مفاوضات سلام جدية ينبغي أن يختار وسيطاً لا منحازاً – كالبرازيل مثلاً – حيث إسرائيل والولايات المتحدة في جانب وبقية العالم في الجانب الآخر”. نعوم تشومسكي المفكر الاميركي اليهودي في مقابلة مع الصحافية العراقية تمارا فنجان في صحيفة ايلاف الالكترونية 21/ 9. وكان تشومسكي قد كشف حقيقة ان الولايات المتحدة واسرائيل أحبطتا التسوية السياسية المدعومة من كل دول العالم تقريباً طوال سنوات ما قبل اتفاق اوسلو.
الجديد في الامر ان الادارة الاميركية اوقفت الآن كل حديث لها عن العملية السياسية وهذا يعني انها جمدت وساطتها “الحيادية والنزيهة” بعد ان استنفدت كل وعودها وتعهداتها التي كانت بمثابة أقوال بلا أفعال. ويبدو في الشكل ان الموقف الاميركي منسجم، من زاوية غياب الاقوال والافعال معاً. غير ان الموقف الاميركي سرعان ما يتدخل بالافعال والاقوال لإحباط اي مسعى فلسطيني يطرح قضية الحل بعيداً عن الاحتكار الاميركي الاسرائيلي للعملية السياسية. والموقف الاميركي يتطابق مع سياسة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة في إزالة العملية السياسية من الاجندة الاميركية والدولية. وفي ايجاد الغطاء السياسي لغطرسة القوة الاسرائيلية الماضية في النهب والسرقة.
اللا حل هو الحل بالمفهوم الاميركي الاسرائيلي تلك الحقيقة الوحيدة التي يعرفها الشعب الفلسطيني منذ 18 عاماً، والتي دفعوا ثمنها غالياً. لا مكان ولا وقت للأوهام بعد اليوم. فاللا حل يعني إضافة الوقت الذي تحتاجه حكومة الاحتلال لشطب ما تبقى من مقومات الدولة الفلسطينية العتيدة، شطباً غير قابل للترميم، وما تحتاجه من وقت لإضعاف الشعب الفلسطيني بعد تفكيك عناصر قوته وجعله غير قادر على المقاومة والصمود.
اللاحل يطرح على الشعب الفلسطيني تحديات كبرى في مقدمتها وقف التدهور في الثقة الذي اصبح أخطر الاسلحة التي تفعل فعلها في تفكيك الشعب وتقويض وحدته الوطنية والمجتمعية. ان العنصر الاهم في استعادة الثقة يبدأ بمراجعة تجربة أوسلو بهدف تبيان الخطأ الاستراتجي والأخطاء التكتيكية، الأخطاء الكبيرة والصغيرة التي وقعت بها الحركة الوطنية. هل كان يمكن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة في ظل ميزان قوى محلي وإقليمي ودولي هو الاكثر اختلالاً في تاريخ الصراع، بفعل انهيار النظام الدولي لمصلحة القطب الاميركي الواحد الوحيد، وفي ظل التحاق النظام العربي برمته بهذا القطب اثناء وبعد حرب الخليج الثانية.
لقد ذهبنا الى هذه المعادلة بمفهوم ان الشعب الفلسطيني هو عنصر استقرار المنطقة او اضطرابها معتقدين ان هذا يكفي لقبض الثمن. ودخلنا الحلبة من دون استعداد وتهيئة، ومن دون استراتيجية ولا تكتيك. استعرنا من نظام السادات شعاراته العقيمة كشعار “السلام خيار استراتيجي وحيد” وشعار “اميركا تملك 99% من عناصر الحل”. لم نؤسس للشق الاول في المقولة الناظمة لانخراطنا في العملية السياسية وهو تحولنا لعنصر استقرار في طول وعرض المنطقة بل قدمنا نموذجاً على الضد من ذلك بإقامة أردأ أنواع المؤسسات والاجهزة وكررنا تجربة الانظمة الشمولية البطريركية التي سرعان ما وقعت في تناقضات مع الشعب التي انتظرها بأثمان عالية الكلفة. وكان يمكن عمل نموذج ديمقراطي من خلال بناء سلطة ديمقراطية في خدمة الشعب تشكل نقيضاً لسلطة الاحتلال في كل شيء. ولم نؤسس للشق الثاني من المقولة وهو ان الشعب الفلسطيني سيحيل المنطقة الى حالة من اللا استقرار التي تهدد المصالح الاميركية والغربية وتهدد اتفاقات كامب ديفيد. لو اردنا ان يكون لنا جاهزية للضغط على المصالح لأقمنا سلطة من طراز مختلف، سلطة قادرة على تنمية الموارد المادية من خلال بنية مجتمعية سياسية متماسكة. مسنودة بعلاقات مع الشعوب العربية وقواها الحية، ومدعومة بشبكة العلاقات الدولية التاريخية. لم يكن لدينا جاهزية في الميلين، وعندما اندلعت الانتفاضة بعد إحساس الشعب بالخداع. كانت القوى المعارضة للحل اكثر جاهزية واستعداداً فركبت موجة الانتفاضة وقادتها نحو إفشال الحل السياسي والقوى التي بادرت اليه. فكانت الهزيمة هزيمتين. هزيمة الحل والقوى السياسية التي شاركت بالحل وبادرت اليه. وهزيمة الاسلام السياسي الذي خاض المعركة بالمعنى الموضوعي لمصلحة الاحتلال.
اللا حل بالمفهوم الاسرئيلي يعني تقاسماً وظيفياً يعطي الارض لاسرائيل ويعطي السكان لسلطة اخرى او لمن يرغب ويستطيع ان يكون سلطة على السكان. هدف عنصري اخفقت دولة الاحتلال في فرضه منذ عقود. لكنه الان مطروح بقوة الوقائع المتراكمة. ان التعاطي معه كأمر واقع أو الإقرار به يعني إقرار بالهزيمة المنكرة للشعب الفلسطيني. ويبقى السؤال كيف يمكن لنا الخروج من هذا المأزق الأخطر؟
إن انتظار نتائج الانتخابات الاميركية وفوز اوباما مرة ثانية والعودة للمفاوضات لن يؤدي الى اي نتيجة كما تقول الخبرة المريرة؟ طرح القضية على الامم المتحدة والفوز بعضو مراقب على اهميته لكنه لن يؤدي الى إنهاء الاحتلال وسنبقى في حالة انتظار مفتوحة. حل السلطة القائمة والتراجع عن اتفاق اوسلو والاتفاق الاقتصادي والعودة الى شعب وسلطة احتلال. خيار يحتاج الى استراتيجية سياسية هجومية. ويحتاج لمقومات من نوع قيادة وطنية موحدة تحت مظلة منظمة التحرير، تتولى مهمة السلطة الوطنية ولا تسمح بتوليد سلطة اخرى تابعة للاحتلال. سلطة تدشن مرحلة جديدة من النضال الوطني المنظم تحت شعار إنهاء الاحتلال والاستيطان. سلطة تعيد طرح قضية الشعب الفلسطيني على أجندة الشعوب العربية وثوراتها، وعلى أجندة القوى العالمية المناهضة للحرب والهيمنة والعولمة المتوحشة. وعلى أجندة قوى السلام الاسرائيلية الحقيقية الرافضة للاحتلال والعنصرية. لا مفر من طرح مخرج ما. لأن استمرار الأمر الواقع سيقود الى ما لا تحمد عقباه.